[b]
يقدر العلماء عدد اللغات الحية فى العالم بما لا يقل عن ثلاثة آلاف لغة
و هذا التنوع اللغوى الشديد يعرقل التفاهم الدولى و التبادل الثقافى بين الشعوب .
و
قد أدرك علماء و فلاسفة من شتى البلدان ، الآثار السلبية لهذه الظاهرة و
حاولوا ايجاد لغة عالمية مساعدة تسهم فى تعزيز السلام العالمى و التفاعل
الخصب بين الثقافات المختلفة .
و يعرف تأريخ علم اللغة مشاريع
حوالى ثلاثمائة لغة عالمية أصطناعية – أى لغات مبتكرة من قبل علماء اللغة –
و لكنها جميعا بقيت حبرا على ورق و أثبتت الحياة عقمها و عدم جدواها ، ما
عدا لغة واحدة منها ، هى اللغة الموسومة (أسبرانتو) التى تعد حاليا أكثر
اللغات الأصطناعية أنتشارا فى العالم .
و يرجع تأريخ أختراع هذه
اللغة الى العام 1887 ، حين نشر الطبيب البولونى ( لازار زامينهوف ) كتابا
باللغة الروسية فى وارشو تحت عنوان " اللغة العالمية " وبأسمه المستعار (
Doktoro Esperanto) و كلمة ( اسبرانتو ) لاتينية و تعنى الشخص الذى (
يأمل ) و يوحى عنوان الكتاب و أسم المؤلف المستعار ، أن الطبيب البولونى
كان يأمل أن تساعده هذه اللغة العالمية على تطوير العلاقات الشاملة ،
المتعددة الجوانب بين شعوب العالم .لأن الناس فى كل مكان بحاجة الى لغة
سهلة و بسيطة للتفاهم فيما بينهم . حقا أن ( الأسبرانتو ) تمتاز ببساطة
البناء و سهولة الأستخدام ، و تتكون من جذور اللغات الأوروبية ( اللاتينية
، اليونانية القديمة ، الفرنسية ، الأنجليزية ، الألمانية ) و هى مفردات
يمكن بواسطة أضافة عدد من السوابق و اللواحق اليها ، تركيب رموز المفاهيم
المستخدمة فى شتى مجالات النشاط الأنسانى .
و فى الوقت الذى نجد أن
اللعات الأنسانية الطبيعية ( الحية ) تحتوى على قواعد كثيرة و حالات
استثناء و شواذ يصعب حصرها ، فأن ( الأسبرانتو ) تتضمن ( 16 ) قاعدة لغوية
من دون أى شواذ على الأطلاق . فقد أراد الدكتور لازار زامينهوف ، أن تكون
اللغة التى أخترعها ذات قواعد بسيطة و واضحة ، سهلة التعلم و الأستعمال . و
كأى ظاهرة جديدة فى الحياة ظهر انصار كثيرون ل( الأسبرانتو ) – من
المؤمنين بأن آمال الطبيب البولونى سوف تتحقق.
و فى الوقت ذاته كان
ثمة كثير من المتشائمين الذين تنباوا بالموت العاجل لهذه اللغة المصطنعة . و
أن مصيرها لن يكون افضل من سابقاتها . بيد أن المتشائمين أخطأوا هذه المرة
، فقد أنتشرت ( الأسبرانتو ) فى الغرب منذ سنواتها الأولى ، و دافع عنها و
باركها كبار العلماء و المفكرين و الكتاب ، و فى مقدمتهم الكاتب الروسى
العالمى مكسيم غوركى . و عملوا على نشرها و الترويج لها . و قد شهدت مسيرة (
الأسبرانتو ) حالات مد و جزر عديدة . فقد حاربها الطعاة من أمثال هتلر و
موسيلينى و لكنها نهضت من جديد بعد الحرب العالمية الثانية ، و أخذت فى
الأنتشار على نطاق أوسع من ذى قبل . ذلك لأن الحاجة الماسة الى لغة تقرب
الشعوب و تعزز الصلات المباشرة فيما بينها تزداد يوما بعد يوم .
فى
عام 1905 عقد أول مؤتمر عالمى للغة ( الأسبرانتو ) ، حضره حوالى ( 700 )
مندوب من شتى بلدان العالم .و منذ ذلك التأريخ يعقد سنويا مؤتمر دولى مماثل
.
و من الجدير بالذكر ان المؤتمر السنوى لعام 1978 الذى صادف مرور مائة
عام على صدور كتاب الدكتور اسبرانتو ، عقد فى العاصمة البولونية ( وارشو )
– مهد الأسبرانتو و نقطة انطلاقها .
و تقدم خلال المؤتمرات السنوية
فعاليات فنية مختلفة بهذه اللغة و بضمنها مسرحيات عالمية ( المفتش العام ،
بيجماليون ، هاملت ... الخ ) .
و كانت منظمة (اليونسكو) قد أحتفات فى
العام 1954 بالأنجازات التى تحققت بفضل أستخدام لغة (الأسبرانتو ) فى مجال
التبادل الثقافى الدولى ، كما أحتفلت على نطاق واسع فى العام 1978 بالذكرى
المئوية الأولى لميلاد أول لغة عالمية مساعدة فى التأريخ .
و على الرغم
من ان العلماء يعتقدون ان هذه الفترة الزمنية غير كافية للحكم على مدى
قدرة و حيوية أية لغة و لكن أنصار ( الأسبرانتو ) أثبتوا أنهم على حق ،
ذلك لأن هذه اللغة أصبحت اليوم لغة عالمية يدرسها و يستخدمها مئات اللوف من
البشر و تسهم على نحو فاعل فى تسهيل و تعزيز التبادل العلمى و الثقافى بين
الشعوب .
و هناك العديد من المنظمات المحلية و العالمية التى تسعى
الى تطوير و تعميم ( الأسبرانتو ) و نشر البحوث حولها و تسهيل و تعزيز
الصلات بين أنصارها و القيام بفعاليات متعددة الجوانب تخدم عملية التفاهم
الدولى و التبادل الثقافى بين الأمم و فى مقدمة هذه المنظمات ( الجمعية
العمومية للأسبرانتو Universala Esperanto) (Asoclo
و توجد أيضا منظمة
عالمية أخرى تعمل فى هذا المجال هى الحركة العالمية لأنصار الأسبرانتو من
أجل السلام ( Mondpaca Esperantista Movado )
التى تقوم بأصدار مجلة
(Paco ) و تعنى ( السلام ) . و ما عدا هذه المجلة ، تصدر بلغة ( الأسبرانتو
) العشرات من المجلات العلمية و الأدبية و الفنية و مئات الكتب سنويا . و
لم يقتصر الأمر على المطبوعات ، حيث أن الأسبرانتو تدرس اليوم فى حوالى (
1000 ) مدرسة و معهد و ( 50 ) جامعة .كما أن العديد من المراكز العلمية فى
الغرب تستخد لغة ( الأسبرلنتو ) فى أعمالها ، و قد قدم اقتراح الى منظمة
الأمم المتحدة لجعل لغة ( الأسبرانتو ) أحدى اللغات الرسمية لهذه المنظمة .
بيد أن هذا الأنتشار الواسع للأسبرانتو، لا يعنى أنها لا تصطدم بعقبات
جادة ، ذلك لأن اللغات القومية الحية للشعوب تتطور بشكل طبيعى ، فى حين ،
لا يوجد أى أرتباط حى للأسبرانتو بشعب معين ، مما يعرقل تطورها .لذا فأن
الأستعمال الطبيعى الحى للغة الأسبرانتو لم يرتفع الى مستوى اللغات القومية
الحية . و هذا العامل السلبى يتم تلافيه عن طريق الأستعارة من اللغات
القومية حسب تطور التطبيق العملى للغة الأسبرانتو فى هذا البلد أو ذاك ،
مما أدى الى دخول مفردات و مصطلحات جديدة الى الأسبرانتو لم تكن موجودة
فيها أصلا . و تمخض عن ذلك ظهور لهجات عديدة لهذه اللغة . و هى نتيجة حتمية
لتطورها فى البلدان المختلفة . و لكن دعاة الأسبرانتو يحاولون التقليل من
تأثير هذه الظاهرة بأضافة الكلمات المتداولة عالميا و التى يفرزها التطور
الحضارى للبشرية بأستمرار، و من هذه الكلمات : (sputnico , mopedo , motelo
) كما دخلت الى الأسبرانتو عدد كبير من المصطلحات العلمية و الأدبية و
الفنية .
و تنتشر فى بلدان العالم المئات من نوادى الأسبرانتو و عشرات المحطات الأذاعية التى تبث برامجها بهذه اللغة .
و
قد ترجمت الى لغة الأسبرانتو عدد كبير من روائع الآثار الأدبية الكلاسيكية
( مسرحيات شكسبير و روايات و أشعار بوشكين و قصائد ماياكوفسكى ... الخ .
كما
ظهر العديد من الكتاب الذين يكتبون بهذه اللغة أقتداءا بمخترع الأسبرانتو
الدكتور لازار زامينهوف ، لعل أشهرهم الفرنسى ب. شفارتس و الروسى خاخلوف و
الأستونى خ. دريزن و الكاتبة الأنجليزية م. باغتون .
ان نتاجات هؤلاء
الكتاب و غيرهم تدل على ان لغة الأسبرانتو قادرة على الوفاء بمتطلبات
التعبير الأدبى . و لكن الشك مايزال يحيط بجدوى الأبداع الأدبى بهذه اللغة
التى وجدت أصلا لتكون لغة مساعدة للتفاهم و ليس للحلول محل اللغات القومية .[/b]